مشاركة في حلقة صالون الوليّ محمذن بن محمودن عن الشيخ محمدُّ النحوي ( ت في 30 مارس 2003 م)..
بقلم محمدن بن سيدي الملقب بدنَّ
التاريخ : السبت 26 اكتوبر 2024 م
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدْ
سعدتُ كما لم أسعد من قبلُ عندما تلقيتُ هذه الدعوةَ الكريمة من شيخي الوليّ محمذن بن محمودن لحضور هذه الحلقة المتميّزة من الصالون عن الشيخ محمدُ بن أنحوي رضي الله عنه المتوفى ليلة الأحد 27 محرم 1424 هجرية الموافق 30 مارس 2003 م تغمده الله برحمته الواسعة .. ذلك أنني توسمتُ في هذه المناسبة أن تمنحني فرصة نادرةً أردّ فيها بعض الجميل لهذه الأسرة الكريمة بمجرد التعبير بصدقٍ عن ما أكنه لها من تقدير واحترام ولعلي في ذلك أنوبُ عن جميع الحاضرين بل وجميع المواطنين ..
وفي البداية أذكر أنّ من القواسم الكثيرة المشتركة بيني وبين خليلي الخليل النحوي حبّ الصالحين - وهو منهم - وفي هذا الإطار كنت أول من عقد الصلة بينه وبين كل من الولي محمذن بن محمودن والشيخ عليّ الرضا الصعيدي .
ولعلّ الأستاذ الخليل يذكر زوال ذلك اليوم (وسط الثمانينات) الذي رافقته فيه إلى مكان إقامة الوليِّ محمذن نطلب وثيقة لديه ، في مكان ما قرب ابلوكاتْ (كبتالْ) وأمضى معه قرابة الساعة منفرديْن و خرج إليَّ مندهشا من صدق كشفه إذ قال لي : " لقد أخبرني هذا الرجلُ بأمور تخصني لا يعلمها إلا الله.. ومن يعرفني حقّ المعرفة و كان على دراية تامة بها، يحتاج على الأقل إلى وقتٍ لترتيب ألفاظه من أجل التعبير عنها "!
وأدخل إلى صلب الموضوع فأقول : يذكر أخي الدكتور يحيى بن البراء أن باحثة أجنبية تصف الحضرة الصوفية لآل أنحوي بأنها " دولة " فيتطابق ذلك التعبير العصري مع تعبيرنا التقليدي (في لغتنا الحسانية) عن كل أسرة بلغت شأوًا كبيراً من التميُّز بأنها "دولة "! والواقع أن جميع الحضْرات الصوفية في بلادنا هي فعلا دول بما يرمز إليه ذلك المفهوم من مقوماتِ السيادة ..
أما الشيخ الوالد محمدُ فالغريب أنني صادفته قبل أن ألتقي أي فرد من أفراد الأسرة الكريمة .. كان ذلك خلال السنة الدراسية الوحيدة التي قضيتها في ثانوية روصو 1970 - 1971 ( السنة الأولى إعدادية ).فلسسبٍ ما كنتُ عشيةَ يوم عصيب ضمن العالقين على حافة النهر الجنوبية الممنوعين من الصعود إلى المعدية الراسية أمامنا وهي على أهبة الاستعداد للعودة خاوية إلى العدوة الشمالية .. وفجأةً ظهر شيخ وقور عائد للتو من السنغال فقالتْ له الشرطة السنغالية المكلفة بالعبور إن المركب محصور عليه وعلى رفقته فقط وطلبتْ منه انتقاء جماعته من بين الخلق الكثير المُحاصر.. عندئذ وقف الشيخ في مدخل العَبَّارة و قال إن جميع العالقين هم جماعته وأشرف بنفسه على صعودهم جميعهم فوق المركب .. وفي عرض البحر علمت أن صاحب ذلك الموقف النبيل اسمه الشيخ محمدُ بن أنحوي !!
وفي السنة الدراسية الموالية 1971 - 1972 صادفتُ في مطار انواكشوط مسؤولا ساميا في الدولة (وزارة التعليم) كنت تعرفتُ عليه منذ شهور إذ له عليّ منةُ تحويلي بأعجوبة من ثانوية روصو إلى إعدادية خيّار في انواكشوط . كان ذلك المسؤول الكبير يودع بكل رفق وحنان شابا يافعا يسافر إلى الخارج ضمن وفد علمتُ في ما بعدُ أنه يمثل بلادنا في مؤتمر الشباب العربي الأول في الجزائر.وقيل لي يومذاك إن ذلك الشاب الذي كان يودعه الشيخ محمدْ يحيى بن فتًى هو ابنُ خالته واسمُه : الخليل بن محمدُّ بن أنحوي ! وفجأة أعاد ذلك الإسم إلى ذاكرتي موضوع العبور سالف الذكر بما يثيره لدي من تقدير وإعجاب . وكان الأستاذ الخليل قد قدم إلى انواكشوط في تلك الفترة لتحضير شهادة الاعدادية بصفته مترشحا حرا .. وقد استحق عضويته في ذلك الوفد الرسمي بفوزه في مسابقة شعرية إلى جانب المرحوم محمد يعلَ بن بدِّ رحمه الله .
وابتداءً من ذلك التاريخ أصبح لذلك الإسم وقع خاص في قلبي أطرب كلما صادفتُ الشيخ محمد الحافظ في المحافل السياسية أو لقيت الأستاذ الخليل في الندوات الثقافية ..واعتبارا من ذلك التاريخ كنت أصادفهما من حين لآخر في التظاهرات السياسية والثقافية المنظمة في انواكشوط دون أن تنعقد بيننا أي صلة .. أما الشيخ محمد الحافظ فكنت ألتقيه في معمعان النقاشات السياسية المحتدمة بين الشباب في إطار سياسة الانفتاح الجديدة المنتهجة آنذاك من قبل الحكومة وكان أحد منظّريها الرسميين البارزين . وأما الأستاذ الخليل فكنت كثيرا ما أصادفه في الندوات الأدبية المنظمة خاصة في المركز الثقافي المصري ..وأذكر أن له قصيدة أخرى فاز بها في مسابقة للشعراء الشباب خولته المشاركة في الدورة الموالية من مهرجان الشباب العربي المنظمة في تونس سنة 1973م. وأذكر أيضا أنني حضرت في المركز الثقافي المصري آنذاك إلقاءه لقصيدة متميزة تتسم بنوع من التجديد لم أعد أتذكر طبيعته.ألقيت تلك القصيدة بحضور الأمير الكويتي ضمن قصائد أخرى فأعجب بها إعجابًا خاصًا لجودتها وصغر سن صاحبها فخيّره بينَ منحة دراسية إلى هناك و مكتبة زاخرة بالمراجع النفيسة فاختار المكتبة !وكان لشعر الشيخ الخليل ونثره على حد سواء رونق خاص بل يخيل إليّ في بعض الأحيان أنه في خطاباته المرتجلة أشعر منه في رصين شعره وبديعِ نثره . ولا غرو في ذلك إذا قرأنا توصيفه لردة فعل والده الشيخ كلما اعتذر له عن تلبية طلبه بإنشاء شعر في مناسبة معينة، يقول الأستاذ الخليل :" ولقد رأيتُ الشيخ الوالد يرد على تمنعي غير ما مرة بلمسة يد على الصدر ، وبأمر جازم حنون : " قل وروح القدس يؤيدك" فتنطاعُ القريحة ، وتنقاد التفاعيل، وتتشكل قصيدة بنتُ ساعتها "!.
وفي منتصف سنة 1975 أنشئتْ جريدة الشعب اليومية وعين الأستاذ الخليل رئيسا لها فلحقتُ به في تلك المؤسسة وثائقيا في مصلحة الأرشيف مكتتبا على أساس شهادة الاعدادية ( فرنسية ومزدوجة ) . و لحسن حظي أنْ كانَ الحد الإداري الفاصل بين الأرشيف والجريدة شفافا يفرض التواصل المنساب بين العمال من كلا القطاعين على أساس مكين من التعاون المستمر .. أذكر أنني عندما كنت في مصلحة الأرشيف كتبت مرةً شيئا خلته مقالا عرضته على رئيس التحرير : الأستاذ الخليل ولكنني فوجئت به يستحسنه ويهرع به مُسرعا ليُريه إلى بعض الزملاء والمسؤولين في المكاتب المجاورة .. كان ذلك من باب تشجيع الشباب وكان ذلك المقال هو أول عمل إعلامي أنشره في حياتي !وقد شجعني الأستاذ الخليل كذلك لاحقًا على قرض الشعر وما أكثر ما أحتاج فيه إلى لمسة يد تنطاعُ بها القافية مثل تلك التي اعتادها الأستاذ الخليل من شيخه الوالد.وربما يكون الأستاذ الخليل هو من دفع عني مبلغ المائة (100) أوقية مقابل بطاقة الانتساب إلى الرابطة الموريتانية للآداب والفنون إبّان إنشائها وبالمناسبة هو واضع نصوصها و أول رئيس لها .وفي هذا الإطار لن أنسى أبدًا قصته العجيبة مع تلك النصوص، ففيها يتجسد علوّ همة الرجل وإخلاصه للثقافة والأدب .
تعرض الأستاذ الخليل في تلك الآونة لحادث سير خطير على طريق الأمل في طريق عودته من برينه - لعله في عطلة نهاية الأسبوع - و بحوزته النصوص المنشئة للهيئة الجديدة للأدباء والفنانين الموريتانيين.. وقد أصيب في ذلك الحادث إصابات بالغة بعضها في صفحة وجهه أدت إلى احتجازه طويلا في المستشفى الوطني .وأدى ذلك الحادث إلى تناثر الملف تذروه الرياح بعيدا عن الطريق . يقول الأستاذ الخليل إنه لم يفكر في تلك اللحظة إلا في مغبة ضياع ذلك الملف الذي هو ثمرة جهود مضنية لشهور متواصلة ، فطفق يتعقبه ورقةً ورقة حتى استعاده كاملا ملطخا بدمائه الزكية الطاهرة !
انعقدت الألفة قوية بيني وبين خليلي الأستاذ الخليل النحوي وخاصة بعد أن انتزعني بسرعة من قطاع الأرشيف لأصبح محررا مترجما معه في قطاع التحرير (الجريدة) ، ومن هنا كانت البداية .. كانت الصحافة هي البوابة التي ولجتُ من خلالها إلى عالم الحياة العامة وكان الأستاذ الخليل هو قدوتي و مرشدي وموجهي في كل ذلك ..وكان أول ما تعلمت على يده فنّ الإخراج الصحفي الذي تكون فيه الصفحة بالنسبة للمخرج بمثابة الميزان يوزع عليها المواضيع الصحفية و يخترع لها العناوين الجذّابة المعبّرة بالمقاييس المناسبة و ينتقي لها الصور المرافقة لها حتى تخرج للناس في صورة منسجمة تستقطب القارئ تلقائيا في شكلها قبل المضمون ..
كان الأستاذ الخليل يتقن فن الإخراج الصحفي إذْ يضفي عليه من ذاته فيوازن بين كل تلك العناصر تماما كما يوازن في تصرفاته اليومية بين جميع متعلّقات الحياة الدنيوية والأخروية ..فهو في كل أحواله صادق مع الله ومع نفسه ومع الناس ..
وابتداءً من ذلك التاريخ لم تزل علاقاتي مع خليلي الخليل النحوي تنمو وتتعزز باطراد حتى كتابة هذه الأسطر والحمد لله.. واستمر التواصل عفويا بيننا في كل الظروف إذ جمعتنا الأفراح والأتراح في ظل بعض المسؤوليات العامة للدولة وفي مخافر الشرطة و ردهات السجون ..
خبرت خليليَ الخليل النحوي طويلا والحمد و لعلي فقهتهُ "شيئا ما" كما يفقه البكريون الزينبيين :
قال العلامة المختار بن حامدٌ يخاطب خلّه الشيخ محمدُّ النحوي :
فقهتُ الشيخ شيئاً ما ولكنْ
بعيدٌ أن أحيط بشمس صحوِ
فأنحو حيث ينحو كلّ بدرٍ
أنير به وأثوي حيث يثوي
ففقهُ محمدِ بن أنحوِ فقهي
ونحوُ محمدِ بن أنحو نحوي !
هذا ومن خلال علاقتي الوطيدة بالأستاذ الخليل وزياراتنا المتبادلة في المكتب والحيِّ و المنزل تعرفت على بقية أفراد الأسرة وعلى رأسهم الشيخ الوالد محمدُّ النحويّ التي كنت أحرص كل الحرص على الظفر بدعواته الصالحة كلما صادفته في الحضرة النحوية في السبخه .. كان بالنسبة لي يمثل التصوف السني السَّنِيَّ مقترنا بقسط وافر من الانصاف ،ويعجبني موقفه من الانتقادات على الطريقة التيجانية وقيل عنها إنها "مبتلاة بالانكار" وكأنما هو يتمثل قول المختار بن حامد :
لا بد من طريقة التصوّف
لأنها من واجب المكلف
لكنّ من واجبه الحقيقي
إماطة الأذى عن الطريق !
ولعل الشيخ ينتهج في هذا المجال نهج شيخ الطريقة التيجانية في الديار المصرية الشريفُ الحسيني العلامة المحدث الشيخ محمد الحافظ المصري التجاني ( 1315 هـ – 1398 هـ ) في قوله المشهور :"وقد تلقينا عن مشايخ هذه الطريق وهو المنصوص عليه عن صاحبها نفسه ( يعني الشيخ سيدي أحمد التيجاني ) أن كل ما ينسب إلى الشيخ بفرض صحة نسبته إليه سواء وُجد في كتبه أو لم يوجد وكان ظاهره مخالفاً لنص الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة المحمدية فهو مؤول ويَحْرم الأخذ بظاهره ، ويجب حمله على وجه يلتئم مع الشريعة".
وفي هذا المجال يحضرني قول شيخ الإسلام الشيخ ابراهيم انياسْ رضي الله عنه :
أحضضُ أصحابي دواماً على الذكر
وفي مذهبي لا تذكر الخود في الجهر
فللسرّ أسرارٌ وللجهر مثلها
ويعلم مولانا الخفيّ من الأمر !
وقد تجسدتْ في الشيخ محمدُّ النحوي جميع الصفات المحمدية في أبهى صورها ولعل مفتاح شخصيته الأبرز هو جلب الخير للغير ودفع الشر عنهم ولذلك حمل الكتاب الشيق المؤلَّف عنه عنوان " إمام السابقين وقطب منافع المسلمين ". وهو كتاب جامع مانع ماتع ألفه حفيد الشيخ أخونا صلاح الدين بن الشيخ محمد الحافظ النحوي وقدم له الأستاذ الخليل مقدمةً أكثر من رائعة - وهو المقدم في كل بَدِيع رائع - قال فيها :" وقد عهدته - يعني والده الشيخ النحوي - كما عهده من عرفه ولا همَّ لديه أكبرَ من أن ينفع الناس ، جلبا لمصلحة ودرءاً لمفسدة وتفريجا لكربة وفكا لرقبة وإطعاما في يوم ذي مسغبة وإصلاحًا لذات بيْن ..".
ومن صفاته المحمدية البارزة كذلك كما لخصها المؤلف "حسن الظن بالله والاستقامة على الطاعات والزهد في الدنيا والتفقه في الدين وحسن الخلق والتواضع والصبر والحلم والمسالمة والدفع بالتي هي أحسن والوفاء بالعهد والعرفان بالجميل".
وقد كنت معجبا بمقولات الشيخ النحوي السائرة في الناس كالمثل السيّار مثل قوله : "وظيفتي أن لا يراني الله حيثُ نهاني وأن لا يفقدني حيث أمرني" - ولازمته المشهورة لكل سائل :" حاجتك مقضية قبل ذكرها ".
والشيخ النحوي ذو كرامات عجيبة ويعبر عنها بأدب جمٍّ على غرار كبراء القوم . سئل الشيخ سعدُ أبيه بن الشيخ محمد فاضل مرة : هل تخرق العادةَ ؟ فأجاب بداهةً : لا .. بل يخرقها ليَ الله ! ومن كرامات الشيخ النحوي الكثيرة لا زال يعلق بذاكرتي منها أن مريديهِ السعوديين ألحّوا عليه مرة إلحاحًا أن يتخلف عن زيارته السنوية الإعتيادية إلى البقاع المطهرة في تلك السنة خوفا عليه وعليهم من خطر الإعتقال إذ أن هيئة رقابة دينية حذرت الناس مما وصفته بأنه شيخ موريتاني ينشر البدعة (يعنون التصوف)، وأمرت بترصده وترصد أتباعه في مكة والمدينة وجدة والطرق بينهما... ولم يزالوا يلحون عليه وهو لا يعبأ بإلحاحهم حتى فاجأهم - من حيث لا يتوقعون - بقدومه مكرما مبجلا في استقبال وضيافة وحِراسة حامي الحرمين الشريفين!وفجأةً تحولتْ مخاوفُ المريدين السعوديين على شيخهم إلى مخاوفَ من عدم لقائه بسبب المراسيم الصارمة للبروتوكول الملكي ..
ومن كراماته العجيبة كذلك قصته الشهيرة مع شيخه الشيخ ابراهيم انياسْ رضي الله عنه وهي كما رواها الشيخ النحوي نفسه أن شيخ الإسلام قال له عشيةَ يوم جمعة مشهود وهما في دكار:" أتاني شيء من المال في باخرة في البحر بعضه من فرنسا ومن نيجيريا وله أشهر عند هؤلاء الجبابرة غصبوه مني - يعني الجمارك السنغالية - خذ لي مالي من هؤلاء الجبابرة الغَصَبَة ".قال الشيخ النحوي :" قلت له " الليلة يبيت في مدينة " . قال لي الشيخ :" يبيتُ في مدينة كولخ (والوقت عشيةً ) وله أشهر ومتعلق بوزراء متعددين "؟. قال الشيخ النحوي قلت له:" أقول لكم ثقةً بالله واعتماداً عليه وحسنَ ظنٍّ به، الليلة بإذن الله يبيت في مدينة كولخ "! ويختم الشيخ النحوي قصته بقوله :" أتيت تلك الليلة إلى مدينة الشيخ في كولخ ومعي الأمتعة وباتت فيها كما قلت للشيخ "!ويصف لنا الشيخ النحوي مشاعر شيخه عندما أخبره بنجاح مهمته قبل نهاية الدوام الرسمي فيقول : " دخلتُ على الشيخ فقال لي : محمد ما فعل اللهُ بك ؟ قلتُ له :
عودتَني منك إحسانا وثقتُ به
حاشى لفضلك أن أراه مقطوعا
ما زلتَ تولي العطا لمن عصاك ولم
يكن عطاك لأجل الذنب ممنوعا !
قلت له : ذلك الذي تعودتُ من الله فعله لي . الأمتعة ها هيَ في السيارة (شاحنة كبيرة ) وتبيتُ الليلة في مدينة كولخ ! قال : ضحك الشيخ ودعا لي الله دعاءً كثيرا (استغرق ساعة كاملة) .
ومن صميم الحكاية أن الشيخ النحوي لما لاحظ مدى غبطة شيخه الشيخ ابراهيم انياسْ بهذه الخدمة المستحقة استشهد له بالبيت التالي وهو مثال في الأدب والتواضع :
كالبحر تُمطرُه السماء وما لها
فضلٌ عليه لأنها من مائِهِ !
و لم يزل الشيخ عليّ الرضا الصعيدي يروي هذه الحكاية ويستحسن هذا الاستشهاد غاية الاستحسان . قلتُ: وهل يستغرب مثل هذا ممن يصفه شيخه شيخ الإسلام في بعض رسائله إليه بأنه " الأديب الأريب "..
دعاني خليلي الخليل النحوي مرة - كعادته معي - إلى تظاهرة منظمة في حاضرة "الرباط " قرب برينه ، وكان ذلك بعد وفاة الشيخ محمدُّ النحوي فلبيتُ تلك الدعوة الكريمة طائعًا رجاءً أن أنال قسطًا مضاعفاً من ضمانات الشيخ النحوي "بقصدها للزيارة" وأنا "المحب لأهلها" أصلاً والحمد لله . إذ أن الشيخ النحوي رحمه الله هو القائل ابّان إنشائها :" وسوف تكون - يعني حاضرة الرباط- ثقةً بالله واعتماداً عليه وحسنَ ظنٍّ به ، باباً لسعادة الدنيا والآخرة لمن سكن فيها وأعان عليها وقصدها للزيارة وأحب أهلها ولا يخيب بحول الله رجاءُ قاصدها ".
وأرجو من الله العلي القدير أن لا يخيب رجائي إذ طرقت ذلك الباب وأنا أتمثل ببيت الولي الصالح امحمد بن أحمد يوره المشهور :
ففي الضمائر من حسن الظنون بكم
ما لا يؤديه تعبير بأفواهِ !
وبلسان الحال خاطبتُ يومذاك تلك الأسرة النحوية الزينبية الشريفة بما خاطبها به العلامة الصالح محمد بن محبوبي :
يا نخبة النجباء والأشراف
أبناء خير الخلق دون خلاف
مدن العلوم ولجتها من بابها
الأسنى على دوحة الأشراف
الله طهركم وأذهب عنكم
رجساً وأمنكم من الأخواف
يُروى عن المختار بن العلامة القاضي محمد سالم بن محبوبي اليدالي الديماني الشمشوي عن أبيه العلامة محمد بن محبوبي أنه كان يقول :" شرفُ الزينبيين ( إيدَغْژَيْنْبُ ) ممّا لا غبار عليه "..
وكانت زيارتي حاضرة رباطَ الفتح بمناسبة ندوة حول "الذكر و الذكر" نظمها الشيخ محمد الحافظ النحوي هناك يوميْ 29 - 30 مارس 2014 وشاركتُ فيها بالقطعة التالية :
رباطَ الفتحِ هلاَّ من سبيل
إلى وصل لدى "بئر السبيل"
�توافيكَ التحايا طيِّباتٍ
تؤمكَ في الغداةِ وفي الأصيل
�فتحمل في شذاها ذكرياتٍ
بذاك الثغر في العهد الجميل
�أتذكر إذ لنا فيهِ منارٌ
ينير الأفق نحو المستحيل
�أتذكر يا رباط الفتح فتحا
بئيسنغان في الأمر الجليل
�أتذكر إذ غدونا في رعيل
ننير الدرب فيه بالدليل
�سبيلُ الرشد فيه لنا سبيلٌ
تعلقنا به جيلا بجيل
�على هدي الجنيد و أشعري
وفقه الأصبحيّ السلسبيل
�فما يُلفَى مجالٌ منه إلاَّ�لنا فيه " شفاءٌ للغليل"
أفضنا من ينابعه فيوضا
شفاءٌ للغليل وللعليل
�فقال لها الزمان لدن أُفيضت
بأمر الله في الأرجاء سيلي
�و عُمِّي الكون لا تخشيْ نضوبا
ولا تخشيْ فتورا في المسيل
�يمدك كاشفُ الإلباس جَهْرًا
بسر وفق منهاج أصيلِ
�فتقذفَ يا رباطُ من المعاني
جواهر معدن منها صقيل
�أتذكر إذ أخذنا فيه عهدا
به نمضي سواءً في السبيل
�فإنَّا حافظون كما حفِظْتُم
لذاك العهد عن ذاك الرعيل !
وأختم فأدعوا للوالد الشيخ محمدُّ النحوي بالرحمة والغفران جزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين و أدعو لأحبابنا أبنائه وأحفاده بما دعا لهم به في وصيته للخلافة لابنه الشيخ محمد الحافظ إذ لنا حظ من ذلك الدعاء بحبه في الله والحمد لله .. يقول الشيخ النحوي في ذلك الدعاء :" وأتوسل إلى الله بذاته وأسمائه وصفاته وبرسوله وبأنبيائه وملائكته وأوليائه وبجاه من له جاه عنده أن يرزقني في ذريتي فوق بغيتي ووفق منيتي في الظاهر والباطن والعاجل والآجل والحس والمعنى والدنيا والآخرة وفي أحبابي ومن يحبني "..
وبخصوص بيعة الشيخ محمد الحافظ النحوي سمعت خليله أخانا الأكبر ببّها بن أحمد يوره مرة يقول ما معناه : " الواضح أن الشيخ محمد الحافظ صادق النية في هذا التوجه لا يريد به غير وجه الله إذْ أنه لو كان يهدف إلى غير ذلك لكان طوعَ يده بكل جدارة إذ أنه يتوفر على كل مقوماته من ذكاء خارق وثقافة واسعة وكفاءة إدارية عالية و حنكة سياسية مشهودة" فتبارك الله أحسن الخالقين.
لست أدري إن كانت الأجيال الحاضرة من الشباب تعلم أن الشيخ محمد الحافظ هو أستاذ تقلب في شبابه في شتى المناصب السياسية والادارية العليا منها مدير في الادارة المركزية ووالي تيرسْ الزمور في الإدارة الإقليمية ووزير الاعلام في حكومة المختار بن داداه !
قال لي أخي جمال بن الحسن رحمه الله مرةً إنه وزملاءه دفعة البكالوريا في دورة يونيو 1976 م تلقوا تكوينا سياسيا مكثفا على يد بعض المسؤولين السياسيين الشباب في معهد للتهذيب السياسي ترأسه مريم داداه (لعله INEEP ) من ضمنهم الشيخ محمد الحافظ النحوي وأنه لاحظ أن بعض الأساتذة مترجمون بارعون أما الشيخ محمد الحافظ فهو مزدوج و أن بعضهم خطباء مفوهون وأن الشيخ محمد الحافظ معين لا ينضب من الأفكار الواضحة !
والله وليُّ التوفيق ..
محمدن بن سيدي الملقب بدنَّ
رحم الله السلف وبارك في الخلف ..